وقد كانت هناك مشاهد ومواقف أثارت في النفس دروسا وعبرا ينبغي ألا تنسى مع الأيام..
أولها: أن العبادة توفيق واختيار:
فكم من قوي البدن حرم الحج لقلة ماله، وكم من غني كثير المال حرم الحج لضعف بدنه، وكم من قوي غني حرم الحج لأنه صرف عنه ولم يفكر فيه أصلا.. كان هذا اعتقادي قبل الذهاب إلى الحج فلما ذهبنا إلى هناك كان العجب العجاب، وظهر معنى التوفيق والاصطفاء والاختيار والاجتباء... أناس فقراء مدقعون في الفقر لا يدري الإنسان من أين أتوا بالمال وكم قضوا من العمر في جمعه.
وشيوخ كبار وعجائز قد وهن بدنهم ورق عظمهم وانحنى ظهرهم حتى كادت رأس أحدهم أن تمس موطئ قدمه، ومع ذلك أتوا لكن كيف؟! لا أحد يعلم إلا الله وحده الذي وفقهم وحملهم وأتى بهم.
وأناس على كراسي متحركة لا يستطيع أحدهم أن يمس الأرض بقدمه، لعلة أو مرض أو زمانة، بعضهم يرعاه ولده وآخرون يدفعهم أهل الخير من المسلمين!! فإذا سألت أحدهم: لم أتيت وأنت على هذا الحال وقد جعل الله لك رخصة؟ قال: أتيت أطلب المغفرة، أتيت أطلب الرحمة، أتيت أطلب الجنة، أتيت أزوره في بيته فلعل المزور أن يكرم زائره، أتيت أتعرض لنفحته فلعله يتلطف على بنفحة من سعادة لا أشقى بعدها أبدا..
فأدركت عندها معنى الاصطفاء ومعنى الاجتباء في قوله تعالى: ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا)(فاطر:32).. وأدركت معنى قوله سبحانه: (يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين)(الحجرات:17).
وكان درسا لكل حاج بل لكل مسلم أن كل عبادة وفق لها العبد فإنما هي محض فضل الله وتوفيقه، وأنه هو الذي اختار العابد من بين الناس ووفقه لهذه العبادة.
فأكثر أهل الأرض كفار.. وكونك أنت من المسلمين الموحدين محض اصطفاء من الله واجتباء واختيار.
والمسلمون كثر ولكن لا يوفق للإخلاص وإحسان العمل إلا من اصطفاه الله واجتباه.
والناس أكثرهم بالليل نائمون ولا يقوم لله الليل ويترك الفراش الوثير إلا من اصطفاه الله واجتباه.
والأغنياء كثر ولكن لا يوفق للنفقة في سبيل الله ومراضيه إلا من اصطفاه الله واجتباه.
وهكذا فكل عمل يحبه الله قمت به فاعلم أنه توفيق من الله أولا واصطفاء واختيار فاحمد الله عليه وافهم معنى قوله تعالى في الحديث القدسي: "ياعبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم.... الحديث"
ثانيا: القوة الحقيقية ليست قوة البدن.. وإنما قوة الهمة والشوق:
فقد رأينا ورأيتم عشرات الآلاف من الحجيج كبارا وصغارا، وشيوخا وشبانا، ورجالا ونساء.. وهم يمشون بين المناسك ، منهم من حمل متاعه على عاتقه ، أو حملت أغراضها على رأسها، ومنهم من حمل أباه أو أمه على ظهره فهو يمشي بها، ما نظروا إلى طول المسافات، ولا إلى ضعف الأبدان، وتعب الأرجل والأقدام.. وإنما حالهم كما قال موسى "وعجلت إليك رب لترضى" فتذكرت قول الحضراوي: رأيت في طريق الحج رجلا يزحف على مقعدته، فسألته من أين؟ قال: سمرقند!! قلت: منذ كم خرجت؟ فذكر: نحو عشر سنين.. فجعلت أنظر إليه وأتعجب!! فقال مما تتعجب؟ قلت: من ضعف مهجتك، وطول سفرك. فقال: أما ضعف مهجتي فالله يحملها، وأما طول سفري فالشوق يقربه.
فعلمت أنه ما أقعد من قعد عن طاعة الله إلا سفول همته وقلة شوقه، فما ترك الجمعات والجماعات وطاعة رب الأرض والسموات من تركها إلا لضعف همته وقلة شوقه ؛ ولو علت همته لحملته، ولو قوي شوقه لحركه
وإذا كانت النفوس كبارا .. .. تعبت في مرادها الأجسام
ثالثا: كلما زادت التقوى في القلب زاد تعظيم الله وحرماته:
كنا في طريقنا من السكن إلى المسجد نمر على خيمة "أو ما يسمونه ديوانية"، وقد وضع في منتصفها نارجيلة "شيشة كبيرة جدا"، ذات خرطوم طويل جدا يصل إلى كل من في الخيمة فيشرب هذا ثم يعطي من بعده وهكذا.. نمر عليهم ونحن ذاهبون ونمر عليهم ونحن عائدون.. سبحان الله.. ألهذا أتيتم ، ألهذا دفعتم أموالكم؟ ألهذا تركتم أوطانكم وفارقتم أولادكم وأزواجكم؟ أي حج هذا الذي تترك فيه صلاة الجماعة من أجل شرب الدخان والشيشة؟ هل هؤلاء يفقهون معنى الحج ويعرفون شرف الزمان والمكان والعمل الذي أتوا من أجله.
بعض الحجاج كانوا يشربون الدخان وهم بملابس الإحرام وبعضهم يوم عرفة وبعضهم والله رأيته يدخن في ساحة المسجد الحرام الخارجية.. فإذا نصحت وجدت من يعتذر ويلقي السيجارة مباشرة، ومنهم من يقول لك أكمل السيجارة، وبعضهم يقول لك وهل التدخين حرام؟ تقول نعم يقول "يعني مش مكروه". وقال بعضهم أريد آية من كتاب الله تقول بأن التدخين حرام، وتأتيه بالآيات والبينات والأدلة حتى يسلم لك ثم في النهاية يقول: لا لن أترك التدخين.
فسبحان الله ما أعظم الفارق بين الناس في قبول النصح والتذكير، وما أكبر التفاوت في استجابتهم لداعي الحق والهدى، وإنما يكون ذلك على حسب ما في القلب من تقوى الله ، فإذا طهر القلب وزادت تقواه عظم الرب سبحانه وعظم أوامره وعظم حرماته.. وصدق الصادق صلى الله عليه وسلم حين قال: "ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب".
فإذا رأيت في نفسك تعظيما لأمر مولاك ومسارعة في طاعته فاعلم أن هذا علامة على امتلاء القلب بالتقوى، وإذا رأيت تهاونا في الأمر وتجاوزا للنهي واجتراء على حرمات الرب فاعلم أن ميزان التقوى قد خف فهو يحتاج إلى زيادة.. وإلى هذا جاءت الإشارة في معرض آيات الحج الذي ينبغي أن يكون عاقبته ومن مقاصده تعظيم الله عز وجل وأمره ونهيه كما قال سبحانه: (ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه)(الحج:30)، وقال تعالى: (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)(الحج:32)..
وهناك مواقف أخرى ودروس وعبر.. ولكن هذه لمحة والموفق الله.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.