أسفار الدنيا تقطع بسير الجوارح , لكن أسفار الآخرة لا يكفيها سير الجوارح بل لابد وأن يتقدمها سير القلوب إلى ربها وخالقها , فلا يعتقد مؤمن أنه سيره إلى الله بجوارحه فقط عند التزامه الطاعات وابتعاده عن المنكرات سيوصله إليه سبحانه , بل أن السير الأول والاهم والأكثر خطورة والأعظم أثرا هو سير القلب .
فالقلب محل نظر الله عز وجل , وهو أساس قبول وتفاضل الأعمال , فالله عز وجل لا يقبل في الآخرة إلا القلب السليم فقال سبحانه " يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ " , ويروي مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ " .
ويتقبل الله العمل القليل من القلب المنيب ويثيب عليه الأجر الجزيل , ولا يقبل العمل الكبير من قلب غير مخبت لربه , فكما قال ربنا سبحانه " قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ " , فالله غني عن صدقة من يتصدق بها ثم يمن على عباد الله بفساد في قلبه .
ولهذا فكل سير بالجوارح لا يتقدمه ولا يصاحبه سير القلب لله لا قيمة له ولا أثر ولا يرفع العبد عند ربه , بل قد يكون وبالا على صاحبه وقد يكون سببا في هلاكه إن افتقر ذلك العمل للإخلاص لله في قلب العبد , فيروي مسلم في صحيحه عن عن ابي هريرة رضي الله عنه قال : حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم " أن الله إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم ، وكل أمة جاثية فأول من يدعو به رجل جمع القرآن ، ورجل قتل في سبيل الله ، ورجل كثير المال .
فيقول الله للقارئ : ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي ؟ قال : بلى ، يارب . قال : فماذا عملت فيما علمت ؟ قال كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار ، فيقول الله : كذبت ، وتقول الملائكة : كذبت ، ويقول الله له : بل أردت أن يقال فلان قارئ . وقد قيل ذلك .
ويؤتى بصاحب المال . فيقول الله : ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج لأحد . قال : بلى ، يارب قال : فماذا عملت فيما آتيتك ؟ قال : كنت أصل الرحم وأتصدق . قال : كذبت ، وتقول له الملائكة : كذبت . ويقول الله : بل أردت ان يقال : فلان جواد . فقد قيل ذلك .
ثم يؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول الله : فبماذا قتلت ؟ فيقول : أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت . فيقول الله له : كذبت ، وتقول له الملائكة : كذبت . ويقول الله : بل أردت أن يقال : فلان جريءٌ .
فقد قيل ذلك . ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي . فقال : يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة "
ولهذا فعندما يسير المؤمن إلى ربه بقلبه يحاول أن يتغلب في طريقه على الأكدار التي تتعلق به , وأن يجتاز فيه العوائق التي تصرفه عن غايته , وحينها يحتاج لقوة يستطيع أن يدفع بها غوائل الشهوة والشبهة عن قلبه ولكي يصح اتجاهه وسيره لربه كلما انحرف عن مبتغاه وليتزود بالقوة التي تعينه على مواصلة السير على الطريق .
وأول الطريق ووسطه وخاتمته معرفة العبد لربه ومعرفته لقدر نفسه , فيتفكر المؤمن في فقره مع غنى ربه , وضعفه مع قوة ربه , وبذلته مع عزة ربه , فيشعر بقيمته الحقيقية دون زيف أو ادعاء قدرة , فيوقن أنه لا يقدر على فعل شيئ إلا بإذن ربه , ويعلم أنه لا يصل بعقله لنفع نفسه بل الخير كل الخير في أتباعه لأوامر ربه والانتهاء عن نواهيه
ينظر المؤمن حوله , فيرى الناس عند ابتعادهم عن ربهم يتهارجون تهارج الحمر في البرية , لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا , يتمسكون بعقولهم ويعادون شريعة ربهم , فيجدهم وقد استحالت حياتهم جحيما لا يطاق , وانقلبت معيشتهم إلى شريعة غاب لا قيم فيها ولا أخلاق , يأخذون من دنياهم بحسب قوتهم ويمسون بعد ذلك جيفا يلعن آخرَهم أولُهم , وصدق فيهم قول الله عز وجل " وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى" ونثق أنه سيسأله ربه تعالى يوم القيامة " قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً" وسيرد عليه ربنا سبحانه " قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى" .
ولا يطمع امرؤ في سلامة قلبه على الدوام , فلا يسلم القلب من التقلب أبدا , وتعرض الفتن على القلوب كل لحظة , ولا يدري المؤمن في أي فتنة يقع قلبه , فلا يطمئن مؤمن إلا بعد أن يضع إحدى قدميه في الجنة .
والمؤمن يتفقد قلبه باستمرار , يتفقد نيته في كل عمل , ويتفقد حياته وحيويته في الأعمال الصالحة فان لم يجده فينبغي عليه مراجعة نفسه والبحث عن قلبه واستعادته , فيقول ابن مسعود رضي الله عنه " أطلب قلبك في ثلاثة مواطن : عند سماع القرآن , وفى مجالس الذكر , وفى أوقات الخلوة , فان لم تجده في هذه المواطن فاسأل الله يمن عليك بقلب , فانه لا قلب لك "
وحينما يفتش عن أسباب غفلته , فيقف على أسباب وحشته , فلابد له أن يحاول بعدها أن يزيل العوائق التي تحول بينه وبين الوصول لربه , فيقول الحسن البصري عن حال المؤمن والفاجر في تفقد قلبيهما " إنَّ الْمُؤْمِن وَاَللَّه مَا نَرَاهُ إِلَّا يَلُوم نَفْسه : مَا أَرَدْت بِكَلِمَتِي مَا أَرَدْت بِأَكْلَتِي مَا أَرَدْت بِحَدِيثِ نَفْسِي , وَإِنَّ الْفَاجِر يَمْضِي قُدُمًا مَا يُعَاتِب نَفْسه " .
ودائما ما تجد المؤمن يضن بلحظات سعادة القرب من الله ويخشى ضياعها منه بسبب معصيته ويخشى فواتها بغفلة قلبه , فما أجملها من سعادة لا يشعر بها ولا يعلم عنها شيئا من حرم منها , فما اصدق إبراهيم بن أدهم التابعي الجليل حين عبر لحظة صفاء قلب وسعادة غامرة فقال: " لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من سعادة لجالدونا عليها بالسيوف " .
وكان صحابة نبينا صلى الله عليه وسلم يتفقدون قلوبهم , فيشتكي أحدهم ما لقي من قساوة قلبه لحبيبه صلى الله عليه وسلم , فكان يوصيهم بما يرقق قلوبهم بمخالطة الضعفاء والمساكين فهذا انفع للقلوب من مخالطة السادة والكبراء ووجهاء الناس , فيروي الإمام أحمد بإسناد حسن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه ، فقال: " امسح رأس اليتيم ، وأطعم المسكين " .